د. احمد ابو على : عودة الذهب إلى قلب النظام المالي العالمي… لماذا تعيد الدول الناشئة صياغة معادلة الاحتياطي؟
في يوم 31 ديسمبر، 2025 | بتوقيت 11:44 ص

كتبت: شيرين محمد
اكد د. احمد ابوعلى الخبير الاقتصادى انه في عالم يتغير على وقع الأزمات، لم يعد الذهب مجرد معدن نفيس أو مخزن تقليدي للقيمة، بل عاد ليحتل موقعًا محوريًا في إعادة تشكيل النظام المالي والنقدي العالمي. فخلال السنوات الأخيرة، اتجهت الدول النامية والناشئة بقوة نحو زيادة احتياطياتها من الذهب، في انعكاس واضح لتحولات عميقة أصابت بنية الاقتصاد الدولي، وأعادت طرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل العملات، ودور البنوك المركزية، وأدوات التحوط في عصر تتراجع فيه اليقينيات.
تحولات النظام العالمي وإحياء دور الذهب
النظام الاقتصادي العالمي يشهد منذ أكثر من عقد حالة من الاضطراب البنيوي، بدأت مع الأزمة المالية العالمية، وتعمقت مع جائحة كورونا، ثم تصاعدت بفعل التوترات الجيوسياسية والحروب التجارية. هذا المسار أدى إلى توسع غير مسبوق في السياسات النقدية التيسيرية، وارتفاع الدين العالمي إلى مستويات تجاوزت 300 تريليون دولار، ما أضعف الثقة في العملات الورقية، حتى تلك المصنفة كعملات احتياطية رئيسية.
في هذا السياق، عاد الذهب ليؤدي دوره التاريخي كأصل غير قابل للتسييس، وغير مرتبط بديون، ولا يخضع لقرارات طباعة نقدية، وهو ما يفسر الزيادة القياسية في مشتريات البنوك المركزية من الذهب، والتي تجاوزت في بعض السنوات ألف طن، في سابقة تاريخية تعكس تحولًا استراتيجيًا لا يمكن قراءته باعتباره موجة مؤقتة.
أسعار الذهب… انعكاس لعدم اليقين وليس مجرد مضاربة
الارتفاع القياسي في أسعار الذهب عالميًا لا يعكس فقط مخاوف آنية، بل يُجسّد حالة ممتدة من عدم اليقين الهيكلي. فالعالم اليوم يعيش مرحلة تراجع للعولمة المالية، وإعادة تموضع لسلاسل الإمداد، وتصاعد للحمائية الاقتصادية، ما يجعل الذهب ملاذًا طويل الأجل، لا أداة تحوط مؤقتة مرتبطة بأزمة بعينها.
الذهب في هذا الإطار لم يعد يُقيَّم فقط بمنطق السعر، بل بمنطق الاستقرار الكلي، ودوره في حماية الاقتصادات من الصدمات المفاجئة، خاصة في الدول التي تتأثر بشدة بتقلبات أسعار الفائدة العالمية وتدفقات رؤوس الأموال الساخنة.
الذهب في معادلة الاحتياطي: أمان وسيولة واستقلال
من منظور البنوك المركزية، يتمتع الذهب بمزايا يصعب توافرها مجتمعة في أدوات أخرى. فهو أصل آمن لا يحمل مخاطر تعثر ائتماني، ويتمتع بسيولة عالمية عالية، كما يشكل أداة فعالة للتحوط ضد التضخم وتقلبات العملات. في المقابل، تبقى العملات الأجنبية والسندات الدولية رهينة لسياسات نقدية لا تملك الدول النامية أي سيطرة عليها.
ومن هنا، فإن تنويع الاحتياطي النقدي وزيادة الوزن النسبي للذهب لا يُعد ترفًا، بل ضرورة استراتيجية لتعزيز الاستقرار المالي طويل الأمد، ودعم الثقة في الاقتصاد الوطني.
إدارة احتياطي الذهب: من التخزين إلى الاستراتيجية
الدور الحديث للبنك المركزي في إدارة احتياطي الذهب تجاوز فكرة التخزين السلبي، ليصبح جزءًا من رؤية استراتيجية أوسع، تقوم على تحديد التوقيت الأمثل للشراء، وضبط الوزن النسبي داخل الاحتياطي، واستخدام الذهب كأداة لتعزيز المصداقية المالية للدولة، دون الانزلاق إلى منطق المضاربة أو البحث عن عوائد سريعة قد تُخل بجوهر الأمان.
فالذهب بطبيعته أصل استراتيجي طويل الأجل، تُقاس أهميته بقدرته على خفض المخاطر الكلية، وليس بمعدل العائد السنوي.
مصر وتجربة التحوط الذكي
في هذا الإطار، يمكن قراءة التجربة المصرية في إدارة احتياطي الذهب باعتبارها توجهًا استراتيجيًا واعيًا، لا استجابة ظرفية. فقد تحركت الدولة في توقيت بالغ الحساسية، ونجحت في بناء هيكل احتياطي أكثر توازنًا، ساهم في تعزيز الثقة في الاقتصاد المصري، ورفع قدرته على امتصاص صدمات عالمية متلاحقة.
بنك الذهب الإفريقي: من مورد خام إلى قوة مؤسسية
توقيع مذكرة التفاهم بين البنك المركزي المصري وبنك التصدير والاستيراد الإفريقي لإنشاء أول بنك متخصص في الذهب على مستوى القارة يمثل تحولًا مفصليًا في إدارة الثروة المعدنية الإفريقية. فالقارة تمتلك نسبة ضخمة من احتياطي الذهب غير المستغل عالميًا، لكنها ظلت لسنوات طويلة خارج معادلة القيمة الحقيقية.
بنك الذهب الإفريقي يفتح الباب أمام استعادة السيطرة على سلاسل القيمة، عبر تقليل تصدير الذهب الخام، وإنشاء مصافٍ معتمدة دوليًا، وتطوير خدمات التخزين والتداول والتمويل، بما يحول الذهب من مورد مُصدَّر إلى رافعة تنموية تخدم الشعوب الإفريقية.
رسالة اقتصادية وسياسية بامتياز
زيادة احتياطيات الذهب، وإنشاء مؤسسات إفريقية متخصصة في إدارته، تحمل رسالة مزدوجة للأسواق والمؤسسات الدولية: رسالة قوة اقتصادية، ورسالة استقلال سياسي في آن واحد. وهي تعكس سعيًا واضحًا لإعادة التوازن إلى نظام مالي عالمي بات أكثر تقلبًا وأقل عدالة.
واختيار مصر لاستضافة هذا المشروع القاري يؤكد مكانتها كمركز مالي إقليمي، قادر على الربط بين العمق الإفريقي والنظام المالي الدولي، وقيادة مسار جديد قوامه السيادة الاقتصادية، والتحوط الذكي، والتنمية المستدامه.







