عبدالعزيز سلام الإعلامي بالتلفزيون الصيني يكتب: حين تتحول الخطط إلى واقع: ماذا تعلّمنا تجربة الصين التنموية؟
في يوم 31 ديسمبر، 2025 | بتوقيت 5:03 ص

كتب: فتحى السايح
لا تُقاس الدول فقط بما تعلنه من أهداف، بل بما تنجح في تحويله إلى واقع ملموس. فبين السطور الهادئة للخطط التنموية، وبين الأرقام الجافة في التقارير الرسمية، تتشكل ملامح علاقة نادرة بين الدولة ومجتمعها: علاقة تقوم على الوعد والالتزام، وعلى التخطيط والتنفيذ، وعلى فكرة بسيطة لكنها حاسمة—أن المستقبل لا يُترك للمصادفة. ومع اقتراب الصين من إغلاق صفحة خطتها التنموية الخمسية الأخيرة، لا تبدو الحصيلة مجرد إنجازات اقتصادية أو قفزات رقمية، بل حلقة جديدة في مسار طويل من التخطيط المتراكم الذي يمتد عبر أكثر من ثلاثة عشر مخططًا خمسياً نُفّذت تباعًا على مدى عقود.
قوة تُبنى عبر الزمن
القوة الصينية لم تُصنع في خمس سنوات، ولا في عقد واحد. إنها نتاج مسار تاريخي نادر في عالم متقلّب: دولة تضع خطة، تنفذها، تُقيّم نتائجها، ثم تبني عليها خطة جديدة. أكثر من ثلاثة عشر مخططًا خمسياً تعاقبت منذ منتصف القرن الماضي، في سياقات داخلية ودولية شديدة الاختلاف، لكن الرابط المشترك بينها كان الاستمرارية والانضباط والقدرة على تصحيح المسار دون هدم الأسس.
هذه القدرة على العمل المتراكم هي ما يفسّر كيف أمكن للاقتصاد الصيني أن يضيف خلال خمس سنوات فقط ما يزيد على خمسة وثلاثين تريليون يوان، وأن يقترب الناتج المحلي الإجمالي من مئة وأربعين تريليون يوان، دون الوقوع في اختلالات كبرى تهدد الاستقرار.
التخطيط بوصفه ثقافة دولة
في كثير من الدول، تُعد الخطط وثائق سياسية قصيرة العمر، ترتبط بالحكومات أكثر مما ترتبط بالدولة. في التجربة الصينية، الأمر مختلف: الخطة الخمسية ليست برنامجًا حكوميًا عابرًا، بل أداة حكم، وثقافة إدارية، وإطارًا جامعًا يوجّه السياسات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
هذا ما يفسّر القدرة على تحقيق نمو مستقر، وبناء قاعدة صناعية متكاملة، وتشييد بنية تحتية حديثة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على أمن غذائي وطاقي يخدم أكثر من مليار وأربعمئة مليون إنسان.
جودة التنمية لا تقل أهمية عن سرعتها
مع تعاقب الخطط، تغيّرت الأولويات وتطورت الأدوات. فبعد مراحل ركّزت على الكم والتوسع، انتقلت الصين تدريجيًا إلى التركيز على النوعية: الابتكار، والبحث العلمي، والصناعات المتقدمة، وكفاءة استخدام الموارد.
هذا التحول لم يكن قفزة مفاجئة، بل نتيجة مسار تخطيطي طويل سمح بتراكم الخبرة وبناء المؤسسات القادرة على إدارة اقتصاد معقد ومتعدد المستويات، مع إدماج البعد البيئي بوصفه شرطًا للاستدامة لا ترفًا سياسيًا.
الإنسان في صلب المشروع
اللافت أن هذا المسار الطويل من التخطيط لم ينفصل عن حياة الناس. فكل خطة خمسية حملت معها تحسينات تدريجية في التعليم والصحة والسكن والعمل والحماية الاجتماعية. ومع كل مرحلة، تقلصت الفجوات، وارتفعت مستويات المعيشة، واتسعت مظلة الخدمات العامة.
بهذا المعنى، لم يكن التخطيط هدفًا في ذاته، بل وسيلة لإعادة توزيع ثمار التنمية بشكل أوسع وأكثر توازنًا، وهو ما منح المشروع التنموي شرعية اجتماعية مستمرة.
دروس تتجاوز الصين
بالنسبة للقارئ العربي، تكمن أهمية هذه التجربة في بعدها البنيوي لا في تفاصيلها التقنية. فالدرس الأبرز هو أن التنمية لا تُبنى بالقرارات المفاجئة ولا بالشعارات، بل بالاستمرارية، وبوجود رؤية تتجاوز الدورات السياسية القصيرة، وبمؤسسات قادرة على التعلم من أخطائها.
إن القدرة على الالتزام بخطة وطنية لعقود، وتطويرها دون التخلي عنها، تمثل أحد مفاتيح الفهم لعظمة التجربة الصينية.
أكثر من ثلاثة عشر مخططًا خمسياً لم تكن مجرد جداول زمنية، بل سردية متكاملة لدولة قررت أن تكتب مستقبلها بيدها، خطوة بعد خطوة. وما نشهده اليوم ليس نهاية مسار، بل نتيجة طبيعية لتراكم طويل من التخطيط والانضباط والعمل الجماعي.
في زمن تُستنزف فيه الدول بالتجريب العشوائي، تذكّرنا التجربة الصينية بأن العظمة لا تولد فجأة، بل تُبنى بالصبر، وبالقدرة على الاستمرار، وبالإيمان بأن التخطيط الجاد هو أرقى أشكال الثقة بالمستقبل.






