تحرير سوق الكهرباء في مصر… بين النصوص والواقع

في يوم 11 أغسطس، 2025 | بتوقيت 9:48 ص

كتب: بقلم 🖋د.م. محمد سليم سالمان

في عام 2015، صدر القانون رقم 87 لتنظيم الكهرباء، واضعًا ولأول مرة إطارًا قانونيًا لتحرير سوق الكهرباء في مصر خلال فترة انتقالية مدتها ثماني سنوات، نصت عليها المادة 63. هذه المادة ألزمت الشركة القابضة لكهرباء مصر وشركات الإنتاج والنقل والتوزيع التابعة لها بتوفيق أوضاعها بما يؤهلها للتعامل في السوق التنافسية.
لكن مع مرور السنوات وبقاء الوضع على حاله، جاء القانون رقم 70 لسنة 2021 ليعدل المدة إلى عشر سنوات من تاريخ اصدار القانون 87.
واليوم وخلال هذا العام، ونحن نقترب من نهاية هذه المهلة، نجد أن سوق الكهرباء ما زال في سباته العميق، لم يحظ بالاهتمام اللازم، ولا وضع هياكله التنظيمية ، فيما استمرت الهيمنة المؤسسية والمصالح الضيقة على حساب الإصلاح الحقيقي.

أولًا: الإطار القانوني والتحولات المطلوبة
القانونان 87/2015 و70/2021 وضعا الأسس التشريعية لفتح السوق أمام المنافسة، وجوهر هذه التشريعات هو فصل الأنشطة (النقل – الإنتاج – التوزيع) وضمان استقلال الشركة المصرية لنقل الكهرباء كمشغل للشبكة وكميسر للتنافسية بين الموردين.
لكن التطبيق العملي غاب، والهيكل المؤسسي ظل كما هو، حيث بقيت نفس الجهات التي تدير وتشغل وتستثمر هي ذاتها التي تضع السياسات وتشرف على التنظيم، ما أدى إلى تضارب مصالح وغياب بيئة تنافسية وكذلك زيادة الأعباء على شركة التقل بتعاقدات الزامية تكلفها أموالا باهظة تعيق وتقيد فكرة الاستقلالية فى إدارة السوق.

ثانيًا: معوقات التنفيذ
1. غياب الفصل المؤسسي بين الإدارة الاستراتيجية والتنفيذية:
كما أوضحت في مقالات سابقة، فإن دمج الأدوار بين واضع السياسة ومنفذها يعرقل أي إصلاح، والمطلوب هو سرعة اتخاذ اجراءات فصل سلطات الرقابة عن التنفيذ بدلا من ان يغرق الجميع في اعمال الصيانة والتشغيل وإصلاح الأعطال اليومي.
2. المصالح الراسخة:
القائمون على المنظومة اليوم يتمتعون بمزايا ونفوذ غير مسبوقين في تاريخ قطاع الكهرباء؛ إذ ولأول مرة يجمع رئيس الشركة القابضة وعضوها المنتدب بين رئاسة مجلس إدارة شركة استشارية تابعة وعضوية مجالس إدارات لشركات أخرى في نفس المنظومة. ومن السذاجة أن نتوقع أن يتخلى طوعًا عن هذه الصلاحيات الواسعة ويدخل في مغامرة تحرير السوق، التي من شأنها أن تحد من سلطاته المطلقة.
3. حجة “عدم تهيئة بيئة الأعمال”:
هذه الحجة تكررت منذ 2015، لكنها لم تُترجم إلى خطة واضحة لتهيئة السوق، بل إن نفس المجموعة المسؤولة عن التهيئة هي التي تمسك بمفاتيح القرار.
ثالثًا: الطاقة المتجددة والفرصة الضائعة
تحرير السوق لا يقتصر على التوليد التقليدي، بل هو فرصة لإدماج الطاقة المتجددة من خلال مناقصات تنافسية مفتوحة تجذب المستثمرين وتخفض الأسعار.
لكن الواقع في مصر يظهر اعتمادًا على الإسناد المباشر أو توسعات النقل والإنتاج التقليدية، دون خلق سوق ديناميكي يسمح بدخول منتجين مستقلين من خلال السوق دون أعباء على شركة النقل وتقييد صلاحيتها وكذلك منح المستهلك المؤهل حرية اختيار المورد.
هناك تجارب عديدة ناجحة في جنوب أفريقيا ومناقصات الطاقة الشمسية في منطقتنا العربية والافريقية أثبتت أن المنافسة الشفافة تجلب أسعارًا أقل واستثمارات أكبر.

رابعًا: الحوكمة المؤسسية وESG كمدخل للإصلاح
الإصلاح التشريعي وحده لا يكفي، إذ يجب أن يدعمه إطار قوي للحوكمة المؤسسية يقوم على:
• الشفافية والإفصاح في القرارات والعقود.
• المساءلة عبر هيئات تنظيمية مستقلة.
• مشاركة أصحاب المصلحة من مستهلكين ومستثمرين.
كما أن دمج مبادئ البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) في قطاع الكهرباء يفتح أبواب التمويل الدولي، خاصة مع اشتراطات البنوك والمؤسسات المانحة والسوق الاوروبية للالتزام بالاستدامة وتقليل البصمة الكربونية.
خامسا: خطوات عاجلة لتحرير السوق
1. إعادة هيكلة شركات الكهرباء لفصل الملكية عن الإدارة التشغيلية.
2. إنشاء هيئة تنظيمية مستقلة بسلطات فعلية على السوق.
3. إطلاق مناقصات للطاقة المتجددة وإلغاء الإسناد المباشر.
4. تهيئة بيئة الاستثمار بسياسات سعرية واضحة وضمانات تمويلية.
5. دمج معايير ESG كشرط للمشروعات الجديدة لجذب التمويل الخارجي.
الخاتمة
تحرير سوق الكهرباء في مصر ليس ترفًا، بل ضرورة اقتصادية وتنموية، مع بقاء شهور على نهاية المدة التي حددها القانون، فإن استمرار الوضع الراهن سيحرم الاقتصاد من فوائد المنافسة، ويؤخر إدماج الطاقة المتجددة، ويضعف جاذبية الاستثمار.
لقد كتبت سابقًا: “لن يتحرر السوق إلا إذا تحررت العقول التي تديره من فكرة السيطرة الكاملة وحب السطوة، وبدأت في تبني فلسفة المنافسة والابتكار”. هذه اللحظة يجب أن تكون الآن، وإلا سندخل عقدًا جديدًا من الجمود بينما العالم يركض نحو أسواق طاقة تنافسية ومستدامة.

د.م. محمد سليم سالمان
استشارى الطاقة المتجددة
عضو المجلس العربى للطاقة المستدامة