قراءة فى تقرير الأمم المتحدة الصادر عن تنمية الموارد المائية لعام 2022

في يوم 13 سبتمبر، 2022 | بتوقيت 6:43 م

كتب: بقلم د. مجدى عبدالله

يُسلط تقرير الأمم المتحدة الصادر عن تنمية الموارد المائية لعام 2022 الضوء على المياه الجوفية والتى تُمثل حوالى 99% من إجمالي المياه العذبة السائلة على الكوكب الأزرق ( كوكب الأرض) ، وأيضاً تُمثل نصف حجم المياه المُستخرجة على مستوى العالم لأغراض الإستخدام المنزلى ، كما تمثل حوالى 25% من إجمالي المياه المُستخرجة لأغراض الرى والزراعة ، إذ تُروى بها 38% من الأراضى المروية في العالم، وذلك لبيان الأدوار المُحددة التي تؤديها ، والتحديات التي يتعين التصدي لها ، فضلاً عن الفُرص المُتاحة التى ينبغى اغتنامها في سياق تنمية الموارد المائية وإدارتها وحوكمتها في جميع أنحاء العالم ، فلم يعُد من المُمكن تجاهل الإمكانات الهائلة التى تنطوى عليها المياه الجوفية وضرورة إدارتها بعناية ، خصوصاً فى سياق تفاقُم نُدرة المياه فى أنحاء كثيرة من العالم .
وتَحدُث ظاهرة استنزاف مخزون المياه الجوفية عندما يفوق استهلاكها عمليات إعـادة تغذية الخزان الجوفى، ومع ان تقلُب المناخ وتغيره قد يساهما في هذه الظاهرة ، إلا إن معظم حالات استنزاف المخزون في الأجل الطويل تنجم عن الإفراط فى استخراجها ، حيث تشير التقديرات في بداية هذا القرن إلى أن مُعدل الإستنزاف يتراوح بين 100 و200 كيلومتر مكعب في السنة ، أى استخراج ما يتراوح بين 15% و25% من مجموع المياه الجوفية فى العالم ، وهذا يضر بالنُظم الأيكولوجية المُعتمدة على المياه الجوفية .
ويُعد النشاط البشرى مصدر أساسى من مصادر تلوث المياه الجوفية حيث يوجد معظمه على اليابسة أو بالقرب من سطح الأرض ، وتُعد الأنشطة الزراعية مصدراً رئيسياً للتلوث بسبب نشر كميات ضخمة من النترات والمبيدات وغيرها من المواد الكيميائية الزراعية ، وغالباً ما يستحيل تدارك تلوث المياه الجوفية فعندما تتعرض مناطق معينة من خزانات المياه الجوفية للتلوث عادة ما تظل مياهها ملوثة .
وتُمكن عمليات حوكمة المياه الجوفية وعمليات التخطيط وتنفيذ السياسات المُتعلقة بها من إدارتها ، حيث تجرى عملية الحوكمة على نطاقات وأصعدة جغرافية مُتعددة ، ومنها النطاقين الإقليمي والعابر للحدود ، ولما كانت المياه الجوفية ترتبط بملكية الأراضى فيتعذر تنظيم أمورها ويصعب حوكمتها وإدارة شؤونها من مستوى القمة إلى مستوى القاعدة ، ويتعين على الحكومات الإضطلاع بدورها بصفتها الجهة القائمة على الموارد نظراً لما تنطوى عليه المياه الجوفية من جوانب ترتبط بالمنفعة العامة ، ويجب أن تنظم القوانين واللوائح المحلية مسألة الإنتفاع بالمياه الجوفية ، وكذلك الأنشطة البشرية التي تؤثر في جودتها باعتبارها مسائل مُرتبطة بحقوق الإنسان ، كذلك حماية وتنظيم مناطق وعمليات تصريف المياه الجوفية وتغذيتها ، والمناطق المحيطة بآبار ضخ المياه وأن تضع معايير لاستغلالها على نحو مستدام ، وضوابط لاستخراجها وأيضاً لوائح لتنظيم الاستخدام المُشترك للمياه السطحية والجوفية .
وتُعد المياه الجوفية مورداً لا غنى عنه لزراعة المحاصيل المروية وتربية الماشية وغيرها من الأنشطة الزراعية وكذلك لتصنيع المواد الغذائية ، وحرصاً على تلبية الطلب العالمى على المياه والزراعة بحلول عام 2050 خاصة في ضوء التقديرات التى تشير إلى زيادة الطلب على الأغذية والأعـلاف والوقود الحيوى بنسبة 50% ، فمن الضرورى زيادة الإنتاجية الزراعية من خلال تكثيف عمليات استخراج المياه الجوفية بصورة مُستدامة مع الحد من الآثار السلبية للإنتاج الزراعى في الموارد المائية والبيئة .
وتُشير التقديرات إلى أن التلوث الزراعي قد تجاوز التلوث الناجم عن المستوطنات البشرية والقطاعات الصناعية باعتباره العامل الرئيسى المُسبب لتدهور المياه الداخلية والمياه الساحلية ، وتمثل النترات المُنبعثة من الأسمدة الكيميائية والعضوية أكثر العوامل البشرية المنشأ الـمُسببة لتلوث المياه الجوفية على الصعيد العالمى ، فينبغى أن تندرج السياسات الرامية إلى التصدى لظاهرة تلوث المياه من الزراعة فى إطار شامل للسياسات المُتعلقة بالزراعة والمياه على الصعيد الوطنى ، وعلى نطاقى أحواض الأنهار وطبقات المياه الجوفية ، فالمياه الجوفية هى الوسيلة الوحيدة الـعملية والميسورة التكلفة لتمكين سُكّان المناطق الريفية ، المحرومين من الخدمات فى معظم أرجاء العالم من الانتفاع بالمياه لتلبية احتياجاتهم الأساسية .
وتعتمد النُظم الإيكولوجية على المياه الجوفية في مختلف أنواع البيئات الطبيعية ، المُمتدة من الوديان في المناطق الجبلية المرتفعة إلى قاع المحيطات والبحار وحتى الصحارى ، وتوفر النُظم الإيكولوجية المائية والبرية المُعتمدة على المياه الجوفية الموائل للأنواع الحية ، وتدعم حفظ التنوع البيولوجى ، وتوفر الحماية فى حال حدوث فيضانات أو فى فترات جفاف ، حيث توفر الغذاء وتؤدى دوراً حيوياً فى حماية طبقات المياه الجوفية من التلوث لكونها حاجزاً مادياً عازلاً ، ولعل السبيل إلى تعزيز الرفاه المشترك للمياه الجوفية والنُظم الإيكولوجية والبشر في آن معا يتمثل فى إدارة المياه الجوفية ، والإدارة المشتركة للمياه والأراضى، واستخدام الحلول المُستمدة من الطبيعة ، وتعزيز حماية النُظم الإيكولوجية ، ولا بد من إدارة المياه الجوفية والنُظم الإيكولوجية إدارة مشتركة من أجل ضمان استمرار الخدمات الحاسمة التى توفرها النُظم الإيكولوجية.
ويؤثر تغير المناخ بصورة مباشرة في عمليات إعادة التغذية الطبيعية للمياه الجوفية ، حيث يؤثر في معدل هطول الأمطار وفى تسرب المياه السطحية إلى باطن الأرض، ومنها المياه المُتسربة من الجداول والأراضى الرطبة والبحيرات الموسمية ، ومع ذلك لا يزال يكتنف التوقعات العالمية غموض كبير بشأن مدى تأثير تغير المناخ في عمليات إعادة تغذية المياه الجوفية ، وقد أسفر ارتفاع مستوى سطح البحر على الصعيد العالمى عن تسرب مياه البحر المالحة إلى خزانات المياه الجوفية الساحلية في جميع أرجاء العالم ، ولعل عواقب تغير المناخ على المياه الجوفية أكبر وأخطر نظراً إلى آثاره غير المُباشرة فى الطلب على مياه الرى بفعل زيادة التبخر النتحى .
وتمتلك أفريقيا موارد كبيرة من المياه الجوفية ، ومع أنه يتعذر استخراج مخزون المياه الجوفية هذا كله ، فإن التقديرات تُشير إلى أن حجمها أكبر بأكثر من مئة ضعف من حجم التجديد السنوي لموارد المياه العذبة في المنطقة ، وتنطوى تنمية استخدام المياه الجوفية على إمكانات كبيرة من حيث تلبية الطلب المُطرد بسرعة على إمدادات المياه في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ، سواء من أجل بقاء الإنسان أو لتعزيز التنمية الاقتصادية ، ولا يزال قُرابة 400 ُ مليون شخص فى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى محرومين من سُبل الانتفاع بأبسط خدمات المياه ، وتجدر الإشارة إلى أن نسبة 3% فحسب من مجموع الأراضى الزراعية فى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى هى أراض مروية ، ولا تُروى إلا نسبة 5% من هذه الأراضى بالمياه الجوفية .
وتمتلك مُعظم البلدان في غرب أفريقيا ووسطها مخزونا صغيراً من المياه الجوفية ، ولكنها تتميز بارتفاع كمية الأمطار السنوية التى تُمكن من تجدد مخزون طبقات المياه الجوفية بانتظام ، وخلافا لذلك تمتلك العديد من البلدان في شرق أفريقيا وجنوبها مخزونا كبيراً من المياه الجوفية ، مع أن مستويات تجدد مخزون طبقات المياه الجوفية منخفضة جداً ، بيد أن عواقب عمليات ضخ المياه الجوفية الجارية حاليا ستكون وخيمة على الأجيال القادمة .

وتّعد ً المنطقة العربية إحدى أكثر المناطق مُعاناة من ندرة المياه فى العالم ، وتُمثل المياه الجوفية مصدر المياه الأكثر استخداماً فى ما لا يقل عن 11 دولة عربية من أصل 22 دولة ، وقد أسفر الإفراط فى استخراج المياه الجوفية فى أجزاء كثيرة من المنطقة عن انخفاض منسوب المياه الجوفية ، ولا سيما فى المناطق ذات الكثافة السُكانية العالية وفى المناطق الزراعية ، ويثير هذا الأمر القلق بوجه خاص نظراً إلى أن المياه الجوفية تُمثل المصدر الرئيسى للمياه الذي تعتمد عليه الفئات الضعيفة الحال غير المربوطة رسمياً بالمصادر العامة للمياه أو التى لا تستطيع الإنتفاع بهذه المصادر ، ومعظم موارد المياه الجوفية فى المنطقة العربية هي موارد غير متجددة ، ولا بد من إدارتها بمراعاة كونها موردا غير مُتجدد ، ومن دواعى الأسف عدم وجود سوى بعض حالات التعاون القليلة فى مجال المياه الجوفية في المنطقة لا سيما فى حالات المياه الجوفية العابرة للحدود ، ونظراً إلى أهمية المياه الجوفية لضمان الأمـن المائى في المنطقة في ظل تغير المناخ ، لا بد من تحسين حوكمة المياه الجوفية من خلال وضع السياسات والتشريعات في هذا الصدد ، والأخذ بنهج الإدارة المبتكرة ، وتعزيز استخدام الوسائل التكنولوجية فى هذا المجال ، وتخصيص الأموال اللازمة لتحسين المعارف بشأن المياه الجوفية والإحاطة بها، وتعزيز التعاون الإقليمى في هذا المجال .