صراع العقول : الدراسات البينية بين الهيمنة والقمع

في يوم 20 نوفمبر، 2025 | بتوقيت 12:59 م

كتب: بقلم 🖋 أ.د/ ريهام رفعت محمد

على هامش التحديث… لا مكان في ركب التقدّم لمن اختار البقاء خارج زمانه .
في الوقت الذي تسعى فيه بلادنا الحبيبة لمواكبة التطورات العلمية من خلال دمج تخصصات أكاديمية مختلفة لمعالجة المشكلات المعقدة التي تتجاوز نطاق تخصص واحد من خلال تنمية رؤى متكاملة وتعزيز الابتكار في مجال البحث العلمي وإنشاء برامج تجمع بين تخصصات متنوعة تعالت بعض الأصوات والتي لا تزال بمعزل عن تلك التطورات العالمية خوفا منها على الإرث المعرفي التقليدي أو إسقاط عروشهم التخصصية ورفع شعار ممنوع الاقتراب وأن أي اقتراب من التخصص الدقيق يُعد انتهاكا صارخا ونوع من العبث الأكاديمي غير مدركين أن العلم صومعة رحلة فكرية تتطلب المرونة الفكرية شأنها شأن العبادة ومكان العلم كالجامعات هو محراب للخشوع الفكري والتأمل العميق
وتشير مصطلحات “متعدد التخصصات” و”بيّن التخصصات” و”عبر التخصصات” إلى مستويات متزايدة من التفاعل بين التخصصات ومستويات متزايدة من التداخل من حيث الأهداف والمناهج البحثية المتميزة لإنتاج بحوث تتجاوز حدود التخصصات ، وبينما تتصاعد برامج الدراسات العليا بالدراسات البيئية كمجال من مجالات الدراسات البينية والمتعددة التخصصات عالميًا انطلاقًا لتعزيز المعرفة المتخصصة والمهارات التقنية والتعاون والتكامل بين التخصصات وفقا للتفكير المنظومى ذلك النهج الشامل الذي يركز على فهم كيفية تفاعل الأجزاء المختلفة للنظام مع بعضها البعض، وكيفية تأثير هذه التفاعلات على النظام ككل، والذى يختلف عن التفكير الخطي الذي يركز على الأجزاء الفردية، حيث يهدف التفكير المنظومى إلى رؤية الصورة الكلية والعلاقات المترابطة والاعتماد المتبادل بين جميع العناصر، بما في ذلك الأسباب والنتائج غير الخطية.
يتصاعد الهجوم على أعضاء هيئة التدريس في مجال الدراسات البيئية كمجال من مجالات الدراسات البينية والمتعددة التخصصات وتُشكِّل بعض التحديات التي تواجه استخدام التعددية التخصصات عوائق هائلة وتتخذ العوائق أشكالًا متعددة، بعضها ظاهر للعيان، وبعضها خفي، وبعضها الآخر غير مرئي، ومع ذلك، فإن جميعها لها عواقب على إنتاجية أعضاء هيئة التدريس، ومعنوياتهم، واستدامتهم ووصل الأمر إلى تعالى الأصوات – للأسف بعض الأصوات الأكاديمية لكبح جماح الدراسات البينية والمتعددة التخصصات وإطلاق العنان للتخصصات الأحادية فقط.
ففي الدراسات البيئية، مهمتنا مساعدة أنفسنا وطلابنا وزملائنا على بناء مهارات تكاملية لمعالجة المشكلات البيئية ، ويتمثل التحدي الرئيسي الذي نعايشه كأعضاء هيئة تدريس في اعداد كوادر يتمتعون بالوضوح المفاهيمي، والكفاءة المنهجية والفكرية كوكلاء للتغيير لقيادة المستقبل لحل المشكلات البيئية، ويتطلب تحقيق هذه الأهداف التدريس والتعلم والتقييم متعدد التخصصات. إن التعددية التخصصية بطبيعتها “موجهة نحو حل المشكلات” – أي أن نظريتها وأساليبها مصممة لمعالجة تعقيد المشكلات الاجتماعية والبيئية ، وقد أدى هذا التركيز التطبيقي إلى شبكة من الحواجز المعرفية والتنظيمية والثقافية في التعليم العالي والتي تعيق بشكل فردي ومجتمعي أصول التدريس وممارسة التخصصات المتعددة بل والحرب عليها من جانب المتخصصين بالتخصصات الأحادية كالتربية أو الإعلام أو الطب أو الهندسة أو الزراعة وغيرها ،،، والتي كان من المفترض أن تتكامل بحكم طبيعتها ( التخصص الدقيق في فرع المعرفة ) مع التخصصات المتعددة لتحقيق التكامل والتوازن لحل المشكلة.
والسؤال الآن لماذا تقبل المجتمع الأكاديمي الجديد من العلوم المستحدثة القائمة على التعددية مثل تخصص (الذكاء الاصطناعي )، (الميكاترونكس) و(الهندسة الوراثية).
وعلى الوجه الآخر لم يتقبل البعض التخصصات المتعددة التي تقع تحت مظلة العلوم الاجتماعية والإنسانية مثل تخصص التربية البيئية( المتعدد التخصصات ) والتي تدمج العلوم الطبيعية، والإنسانية، والاجتماعية لفهم وحل المشكلات البيئية وتخصص الإعلام البيئي ( المتعدد التخصصات ) والذي يدمج بين العديد من التخصصات مثل العلوم الطبيعية (كالأحياء، والكيمياء، وعلوم الأرض والغلاف الجوي) والعلوم الاجتماعية والإنسانية (مثل الإعلام، والتربية وعلم الاجتماع، علم النفس، القانون والاقتصاد ) وعلوم الإدارة (كإدارة المخاطر ،التنمية المستدامة والتخطيط الحضري) وهذا التنوع ضروري لفهم القضايا البيئية وتغطيتها بفعالية.
الشاهد على تطوير الاتجاهات في الدراسات البيئية والتي تقع تحت مظلة العلوم الاجتماعية والانسانية هو التوسع الأكاديمي الدولي لإنشاء برامج بينية متعددة التخصصات بعض البرامج منها قائمة على الربط بين تخصصين كل منها تخصص متعدد في حد ذاته مثل الربط بين التربية البيئية والإعلام البيئي لتكوين وعي بيئي متكامل؛ فالتربية البيئية تزود الأفراد بالمعرفة والمهارات والأخلاقيات اللازمة لفهم البيئة، بينما يعمل الإعلام البيئي على نشر هذه المعرفة وتوعية أكبر شريحة من المجتمع بشكل أوسع من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة، فكلاهما يسعى لتعزيز السلوكيات الإيجابية تجاه البيئة وتحقيق التنمية المستدامة ، وهناك العديد مثل تلك البرامج منها برنامجي الماجستير في التربية البيئية والتواصل، ودبلوم دراسات عليا في التربية البيئية والتواصل بجامعة رويال رودز بكندا ، وبرامج ماجستير في البيئة والثقافة والإعلام وعلوم الاستكشاف بجامعة ميامي بفلوريدا، وماجستير في البيئة والثقافة والتواصل بجامعة غلاسكو بإسكتلندا بالمملكة المتحدة ، وماجستير في الإعلام والتواصل البيئي، ودكتوراه في التواصل البيئي بجامعة برايتون بالمملكة المتحدة.
فنحن لا ننظر كمتخصصين في مجال البيئة المتعدد التخصصات إلى قمع التخصصات الأحادية وفرض الهيمنة الفكرية وسحب البٌساط من تحت اقدام التخصصات الأحادية لأن هذا البُساط لا يصل بنا إلى المٌنتهى وهو الحلول الجذرية للمشكلات البيئية فكل العلوم الأحادية منها والمتعددة تكمل بعضها البعض لعزف سيمفونية واحدة لصالح المجتمع من خلال العلم وتكامل المعرفة.
فلماذا الصراع الأكاديمي وافتعال المشكلات الأكاديمية وتحول الاختلاف في وجهات النظر إلى خلافات فعندما تتسرب الخلافات الأكاديمية بين العلماء إلى الرأي العام فلننتظر هيمنة الرويبضة على الرأي العام فنحن ننتسب جميعا تحت مظلة البحث العلمي سواء أخذ البعض المنحى البيني أو المتعدد التخصصات أو أخذ بمنحى التخصصات الأحادية فعندما يذهب بنا السِجال العلمي الى ساحة معركة فكرية جدلية حول العلم وطبيعة المعرفة فلا ننتظر من الرأي العام الإجماع على أهمية العلم وقيمة العلماء ولنترك مكاننا العلمي والأكاديمي إلى السفهاء والجهلاء ليقودوا الرأي العام إلى التخلف وعدم اللحاق بركب التنمية فحذار من التلاعب بعقول طلابنا بدوافع واهية ( في ظاهرها الحفاظ على التخصص وفى بطانها الجمود الفكري والمنهجي ) وحذار من التلاعب بالرأي العام وافسحوا الطريق للتجديد من خلال الفكر والمنهج لنواكب العصر فآفة العلم التَقَوْقُع والانغلاق داخل خندق أو نفق مظلم حتى لا يتجاوزنا الزمن.

ا.د/ريهام رفعت
قائم بأعمال عميد كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية – جامعة عين شمس