الخياط يكتب : إعادة تدوير البشر
في يوم 4 نوفمبر، 2025 | بتوقيت 12:55 ص

يُعرف الاقتصاد الدائري بكونه نموذج إنتاج واستهلاك يهدف إلى منع الهدر والحفاظ على قيمة المنتجات والمواد لأطول فترة ممكنة، بالاعتماد على مبادئ إعادة الاستخدام، والإصلاح، والتجديد، وإعادة التصنيع والتدوير، بدلاً من النموذج التقليدي المتمثل في التخلص من المنتجات بعد استخدامها.
يشكّل البلاستيك والمنسوجات مثالين واضحين لحجم الهدر العالمي، إذ يُنتج أكثر من 353 مليون طن من نفايات البلاستيك سنويًا، ولا يُعاد تدوير سوى 9% منها، فيما يُهدر من المنسوجات ما يزيد على 92 مليون طن سنويًا بسبب ثقافة “الاستهلاك السريع”. وينسحب هذا المنهج على قطاع الإلكترونيات أيضًا، بمعدل إنتاج سنوي يصل إلى نحو 62 مليون طن من النفايات. مما يعظم المردود الإيجابي للاقتصاد الدائري في الحفاظ على الموارد الطبيعية وخفض البصمة البيئية، مع فتح مجالات جديدة للابتكار والتوظيف.
وإذا كان الاقتصاد الدائري في جوهره يسعى إلى استدامة الموارد، فإن المنطق نفسه يمكن أن يمتد إلى المورد الأثمن: البشر. فكما نعيد تدوير المعادن والبلاستيك لإطالة عمرها الاقتصادي، فنحن مدعوون إلى النظر في سُبل إعادة تدوير البشر، بمعنى استدامة خبراتهم ومعارفهم وتمكينهم من مواكبة التطور المعرفي، عِوَضًا عن إهدار قدراتهم، في وقت ينطلق فيه قطار اقتصاد المعرفة بأقصى سرعة.
لقد تغيّرت نظرتنا إلى الكثير من حولنا بفعل برمجيات الذكاء الاصطناعي، وصار على الجميع استئناس منتجاته من برامج وأجهزة، تجنبًا لما صار إليه حال صانع الطرابيش الذي ظن أن منتجه سيظل دائمًا وأبدًا فوق الرؤوس، وتجاهل إشارات التغيير، ليجد نفسه وقد لفظه السوق.
ومن ثم يكمن التحدي الكبير في كل مؤسسة في كيفية إعادة تدوير العمالة، وتعظيم الاستفادة منها في ظل تحديات أهمها الطبيعة البشرية المقاومة للتغيير، وتسارع تطور الاقتصاد المعرفي، المعتمد أساسًا على وقود البيانات في استخلاص النتائج واتخاذ القرارات.
لقد تجاوزت حاجتنا اليوم “البيانات” بمعناها المجرد Abstracted Data إلى البيانات السلوكية Behavioral Data، فما تتصفحه وتنقر عليه على شاشات الهاتف أو الحاسوب، ولو بدافع التسلية أو طرد الملل، يتحول إلى بيانات ترسم شخصيتك، وتحدد اهتماماتك الخاصة والعامة؛ وأي الرياضات تحب، واللاعب الذي تفضله، والسياسي الذي تستمع إليه، وماركات الملابس التي تختارها، وحتى مقاس حذائك ولون جوربك، ولمن ستمنح صوتك في الانتخابات القادمة، وما تتطلع إليه في مجال عملك، وغير ذلك كثير.
ليصبح التحدي المطروح هو: كيف نستخدم منهجيات اقتصاد المعرفة ذاتها ونغذي بها البشر أنفسهم، كلٌّ في مجاله؟ شيء من هذا القبيل يحتاج إلى آليات تجعلنا سريعي الحفظ والتذكر، وقادرين على ربط البيانات المتناثرة لصياغة معرفة ذات قيمة، وتحويل الخبرة المتراكمة إلى طاقة إنتاجية تواكب العصر.
ولعل طرحًا كهذا يبدو غريبًا بعض الشيء، ولكن الغرابة – حقًا – تأتي من إنكاره. فإذا كنا نحن البشر قد نجحنا في تعليم الآلة كيف تمتثل لتعليماتنا، فما أيسر أن يحدث هذا مع بشر لهم آذانٌ يسمعون بها، وقلوبٌ يعقلون بها. ولعلي أجد فيما وصلنا إليه من تقدم في مجال الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة ما يؤيد ذلك، إلا أن عيب ما أدركناه من علم، أننا انشغلنا به في تعليم المعدن البارد عن تعليم الخلية الحية.
إن القضية ليست في المقارنة بين قدرات الآلة والإنسان، بل في أننا تركنا تعليم الإنسان وانشغلنا بتعليم الآلة، حتى أصبحت الأدبيات العالمية تقرن الذكاء بالآلة، ولا تربطه بالإنسان، لتتزعزع ثقة الإنسان في نفسه وقدراته، رويدًا رويدا، ويقدم -في لحظات الاختيار- الروبوت على أخيه من بني البشر.
من ثم، فلربما آن الأوان أن نعكس اتجاه اهتماماتنا، أو على الأقل نوازن فيما بينها، فنُعيد تدوير الإنسان نفسه، لا لنعيد تشكيله ميكانيكيًا، بل لنوقظ فيه قابليته للتعلُم المستمر، ونُعيد استثمار طاقاته العقلية والعاطفية.
إن الدعوة لإعادة تدوير الثروة البشرية، إنما هي دعوة لإنقاذها من الركود، وتحويلها إلى مكون أساسي يعتز بنفسه ويثق في قدراتها!
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]







