د. محمد راشد يكتب : “الاستثمار غير الملموس.. رأس المال الصامت وإعاده صياغة مستقبل التطوير العقاري في مصر والمنطقة”

في يوم 17 أغسطس، 2025 | بتوقيت 11:05 ص

كتبت: شيرين محمد

في عالم الاقتصاد المعاصر، لم يعد النجاح في صناعة التطوير العقاري يُقاس فقط بحجم الأراضي المملوكة أو عدد الأبراج الشاهقة التي ترتفع في الأفق، بل أصبح يُقاس بمدى قدرة المطور على بناء أصول غير مرئية لكنها ذات تأثير عميق، وهي ما يُعرف بالاستثمار غير الملموس، ذلك النوع من رأس المال الذي لا يظهر في الميزانيات على شكل أراضٍ أو مبانٍ، لكنه يتجسد في المعرفة، والابتكار، والسمعة المؤسسية، والتكنولوجيا، ورأس المال البشري، وهي عناصر تشكل اليوم المحرك الحقيقي للنمو المستدام والقدرة التنافسية في الأسواق العقارية الإقليمية والعالمية.

إن الاستثمار غير الملموس يشمل أبعادًا متكاملة تبدأ برأس المال المعرفي المتمثل في الدراسات المسبقة الدقيقة لاحتياجات السوق، وتحليل اتجاهات الطلب المستقبلية، واستشراف التحولات الديموغرافية والاجتماعية، مرورًا برأس المال المؤسسي الذي يتجلى في بناء علامة تجارية قوية وسمعة راسخة تعزز ولاء العملاء وثقة المستثمرين، وصولًا إلى رأس المال التكنولوجي الذي يدمج التحول الرقمي في إدارة المشروعات، ويستفيد من حلول الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية في التسويق وإدارة المبيعات، وأخيرًا رأس المال البشري الذي يضم العقول المبدعة والكفاءات النادرة القادرة على صياغة حلول مبتكرة للتحديات العمرانية.

وتزداد أهمية هذا النوع من الاستثمار في الحالة المصرية، حيث يواجه السوق العقاري تحديات معقدة تتمثل في التقلبات الاقتصادية، وارتفاع تكاليف البناء، وتغير أنماط الطلب، وتزايد المنافسة الإقليمية، في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات كبرى بفعل الأزمات الجيوسياسية وإعادة تشكيل الخريطة الاستثمارية العالمية. وفي هذا السياق، يصبح الرهان على القدرة الابتكارية والمعرفية أكثر أمانًا واستدامة من الاعتماد على التوسع المادي وحده، إذ أن دمج الاستثمار غير الملموس مع الاستثمار الملموس يخلق منتجات عقارية ذات قيمة عالية، ويمنح مصر ميزة تنافسية حقيقية على المستوى الإقليمي، خاصة في ظل تزايد الاهتمام العالمي بالمشروعات العمرانية المستدامة والمدن الذكية.

ومن المهم أن ندرك أن المنافسة في الأسواق الإقليمية لم تعد مقتصرة على من يمتلك أكبر قطعة أرض أو أطول برج، بل انتقلت إلى مستوى أعمق يتعلق بمن يملك أكبر رصيد من الفكر الاستراتيجي والقدرة على صياغة هوية عمرانية متفردة، ولنا في التجارب الخليجية – ولا سيما في الإمارات والسعودية – نموذج واضح، حيث تم الاستثمار بكثافة في السمعة الدولية، والبنية المؤسسية، والابتكار التكنولوجي، وتطوير الكفاءات البشرية، ما جعل المشروعات العقارية هناك علامات حضرية ذات قيمة اقتصادية ورمزية عالية، وجعل هذه الدول وجهة مفضلة لرؤوس الأموال العالمية.

وبالنسبة لمصر، فإن تبني هذا النهج من شأنه أن يغير قواعد اللعبة، حيث يمكن عبر الاستثمار في الأصول غير الملموسة بناء ثقة طويلة الأمد مع العملاء، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخلق بيئة تنافسية أكثر شفافية واستدامة، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الكلي عبر زيادة الإنتاجية، وتحسين جودة المشروعات، وتقليل المخاطر الناتجة عن المضاربات قصيرة المدى. وإذا ما تحققت هذه الرؤية، فإن السوق المصري لن يكون مجرد سوق ناشئ، بل لاعبًا محوريًا في صياغة المشهد العمراني في المنطقة.

أما سيناريوهات المستقبل، فتشير بوضوح إلى أن الشركات التي ستنجح في المزج بين الاستثمار الملموس وغير الملموس ستتصدر المشهد العقاري خلال العقد المقبل، ليس فقط من حيث حجم المبيعات، بل من حيث قدرتها على فرض معايير جديدة للجودة والخدمات، وابتكار أنماط عمرانية تتماشى مع تطلعات الأجيال الجديدة ومتطلبات الاستدامة البيئية، بينما ستجد الشركات التي تتجاهل هذا التحول نفسها في موقع متراجع أمام منافسين أكثر تطورًا وابتكارًا، سواء من الداخل أو من الخارج.

إن الرسالة الموجهة اليوم إلى صناع القرار والمطورين العقاريين في مصر واضحة وحاسمة: الاستثمار غير الملموس لم يعد رفاهية أو خيارًا إضافيًا، بل أصبح ضرورة استراتيجية إذا أردنا الحفاظ على تنافسية السوق وبناء صناعة عقارية قادرة على الاستمرار في خلق القيمة لعقود قادمة، فالسباق في عالم التطوير العقاري لم يعد على من يملك أكبر برج أو أوسع قطعة أرض، بل على من يملك أكبر مخزون من الفكر والإبداع والثقة، وهو رأس المال الصامت الذي سيحدد مستقبل العمران المصري ويضعه في مكانة تليق بإمكاناته الإقليمية والدولية